الكتابات
الجذور أولاً ثم الفروع
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا الكلام مكتوب لشخص واحد، لكنه قد يفيد آخرين، فالله المستعان.
بما أننا لا نتعلم ديننا منذ سقوط الخلافة الإسلامية الأولى عام 1924ش، اللهم إلا جانب العبادات منه، وجب إرجاع كل الأمور لأصلها لنبدأ من أرضية مشتركة تساعدنا على فهم بعضنا البعض.
"الإسلام دين رحمة". هذه الجملة المشتهرة لا يفهمها أكثرنا. فالرحمة ليست ألا تؤذي أحداً ولا هي "من ضربك على خدك الأيمن فأعطه الأيسر أيضاً" كما يقول النصارى في كتبهم. والأمثلة في ذلك كثيرة ومشتهرة. فمثلاً تقطع ساق المريض إذا ما تعفنت لتحميه من الموت. وتجذب من يلقي بنفسه من حالق لتنقذه من الموت ولو آذيت ذراعه أو خلعت كتفه. وكم في تاريخنا الماضي والحاضر من أم أو أب قتل ابنه قتلة سريعة عوضاً عن تركه يتعذب في موت بطيء –وإن كان العمل غير سليماً، إلا أنه يكشف لنا عن نفسيتنا الحقيقية، بعيداً عن الدين. كذلك تطبق حدود الله على القاتل والسارق والزاني وشارب الخمر وغيرهم، رحمة من الله تعالى بمجتمعاتهم، بل وبهم هم أنفسهم. فجلد شارب الخمر وإن آلمه في الدنيا، إلا أنه لا يقارن بلحظة في نار جهنم والعياذ بالله.
وقد نقلت لنا كتب التفسير قول أبا هريرة رضي الله عنه الشهير: " ( كنتم خير أمة أخرجت للناس) قال خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام". هذا هو فهم من نقلوا لنا الدين، وما كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته وتابعيهم وتابعي تابعيهم إلى وقت غير بعيد.
هذا والأصل في الأمور أن يقاتل المسلمون الكافرين. إنتبه للنقطة التي وضعتها بعد الجملة السابقة. لا يقاتل المسلم الكافر المحارب فقط، ولا يقاتل الكافر الذي يعتدي عليه فقط. بل الأصل قتال دائم ومستمر بين المسلمين والكافرين. والسبب في هذا أن الله تعالى قد أمر بهذا. هذا سبب كافٍ لأي مسلم، وإن كان يمكننا استخلاص عشرات الحِكَم من دروس التاريخ لهذا الأمر الرباني.
قال الله تعالى في حديثه عن الكافرين:قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴿29﴾
۞سورة: التوبة۞
وقال تعالى: أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿13﴾ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ﴿14﴾ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ۗ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَىٰ مَنْ يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿15﴾ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴿16﴾
۞سورة: التوبة۞
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى "
مُتَّفق عليه.
وقال كذلك: "بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم"
الذهبي - سير أعلام النبلاء.
وقال أيضاً: " إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ"
أحمد وأبو داوود وصححه الألباني.
وعلى هذا كان المسلمين على مر التاريخ، يتفرقون دولاً ثم يجتمعون دولة واحدة، لكنهم كانوا دوماً يفهمون هذا الكلام ويطبقونه. بل وحتى أعتى جبابرة حكام المسلمين، الذين فسقوا في الأرض وظلموا وأفسدوا، لم يتوقفوا عن الجهاد في أي يوم من الأيام. فلما توقفوا، زالت الخلافة وزال الملك، وضربت علينا الذلة إلى اليوم وستبقى إلى أن نرجع إلى "ديننا" كما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر صراحةً، لا توريةً.
أعيد. هذا لأي مسلم يريد الحق لا الهوى كافٍ للفهم والعمل. وكما قال القائل "طالب الحق يكفيه دليل، وطالب الهوى لا يكفيه ألف دليل".
إذن بقي سؤال هام: من هم الكافرين؟
الكافر هو كل شخص يكفر بالله تعالى ورسله وكتبه وملائكته وأي شيء مما أخبر الله تعالى به. ويدخل في زمرة الكافرين من أسلم ثم ارتد عن الإسلام –وما أكثر هؤلاء في أمتنا اليوم- بعلم أو بغير علم. فالكافر الذي يعلم أن الله موجود وأنه قد أرسل رسلاً ثم كفر، يستوي –في الدنيا على الأقل- بالكافر الذي لم يهتم بأن يبحث عن إلهه ليعرف ما يطلبه منه. ومن هذا المفهوم وجبت حرب كلا النوعين من الكفار.
ولا يعلم أكثرنا اليوم ما يجعله يرتد عن الإسلام –تجاهلاً منه لأن الكلام في كتاب الله وسنة رسوله، كما أنه موجود بغزارة في الكتب الإسلامية القديمة والمعاصرة- فيرتد منا الكثيرين عن دينهم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ويموتون على ذلك.
ونواقض الإسلام –الأفعال التي تخرج المسلم من دينه بعد إسلامه- معروفة لكل من أراد معرفتها.
- الناقض الأول: الشرك في عبادة الله تعالى. ومن ذلك دعاء الأموات، والاستغاثة بهم، والنذر والذبح لهم كمن يذبح للجن أو للقبر. منها أيضاً من يعمل عملاً يريد به أن يحبه الله وأن يمتدحه الناس ويكبرونه في نفس الوقت.
- الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم فقد كفر إجماعا.
قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴿116﴾
۞سورة: النساء۞
وقال تعالى: لَلَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ۖ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۖ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴿72﴾
۞ سورة: المائدة ۞ - الثالث: من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر لأنه يرد صريح قول الله تعالى في كثير مواضع كتابه الكريم.
- الرابع: من اعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذي يفضل حكم الطواغيت على حكمه - فهو كافر. ومن لم يكفر بالطاغوت مع إيمانه بالله فهو كافر أيضاً.
- الخامس: من أبغض شيئا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به فقد كفر؛ لقوله تعالى:وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴿8﴾ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴿9﴾
۞سورة: محمد۞ - السادس: من استهزأ بشيء من دين الرسول صلى الله عليه وسلم أو ثوابه أو عقابه كفر، والدليل قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ۚ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ﴿65﴾ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ۚ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ﴿66﴾
۞سورة: التوبة۞ - السابع: السحر، ومنه الصرف والعطف، فمن فعله أو رضي به كفر، والدليل قوله تعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ۚ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴿102﴾
۞سورة: البقرة۞ - الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿51﴾
۞سورة: المائدة۞
وقال تعالى: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴿ 28 ﴾
۞سورة: آل عمران۞ - التاسع: من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم - كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام - فهو كافر؛ لقوله تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴿85﴾
۞ سورة: آل عمران ۞ - العاشر: الإعراض عن دين الله، لا يتعلمه ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا ۚ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ﴿22﴾
۞سورة: السجدة۞
ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف، إلا المُكرَه، وكلها من أعظم ما يكون خطرا، وأكثر ما يكون وقوعا. ويُستثنى من قاعدة المُكرَه العلماء في رأي كثير من المعتبرين من أهل العلم –كابن حنبل وابن تيمية رحمهما الله وغيرهما- لأن العالِم يعتمد عليه الناس في فهم دينهم وما عليهم اتخاذه من قرارات تمس مصائر الأمم والأفراد.
لماذا علي أن أشغل نفسي بتكفير أو إيمان شخص؟ لم لا أدع الأمر لخالقي وخالقه دون أن أشغل بالي؟
وهو سؤال يتردد اليوم كثيراً في عقول الناس وعلى ألسنتهم، وهو من تلبيس إبليس على المسلمين، فنعوذ بالله السميع العليم منه. و "التكفير" من الأشياء التي حوربت بشراسة على مر القرن الماضي، حتى أن اللفظ نفسه بات مما يقشعر له بدن الغالبية العظمى، وأصبح يطلق على جماعات يقصد به خروجهم على الإسلام وبعدهم عن الطريق السليم.
لكن تكفير من كفرهم الله تعالى من أعمدة الإسلام التي لا يقوم إلا بها. فكما رأينا سابقاً، من لم يكفر من كفره الله سبحانه وتعالى فقد ارتد عن الإسلام. وقد تسبب هذا في ردة أكثر مسلمي اليوم بغير علم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. غير هذا، فإن تكفير من كفره الله تعالى ليس أمر رفاهية فكرية أو هو من الفروع التي لا ينبغي أن ينشغل بها العامة. بل هو أمر تنبني عليه أعمال كثيرة تخص كل مسلم في كل مكان وفي كل يوم. فمعاملات المسلم مع المسلم تختلف عن معاملاته مع الكافر. وفهم المسلم لماهية الكفر والكافرين قد تنجيه من الردة والعذاب الأليم. فكم منا اليوم ممن يوالون الكفار صراحة وخفية، وقد أخبرنا تعالى أن من يتولهم منا فهو منهم. ثم كيف سأنفذ الأمر الإلهي بمحاربة الكافرين إن لم أعرفهم؟
ووقت كتابة هذا الكلام، حديث الساعة هو طيار أردني اسمه معاذ الكساسبة، قامت مجموعة من الناس بقتله حرقاً، وانقسم الناس بين رافض وموافق، محب وكاره. وأكثر من يناقشون الموضوع لا يناقشونه عن علم شرعي بدليل، بل عن هوى أو عن عدم فهم بالدين فيرددون كالببغاوات ما ينقله إعلام هؤلاء أو إعلام هؤلاء، مع ما علموا يقيناً من كذب أكثر القنوات الإعلامية الصراح على مر السنوات الفائتة.
ما أنا من درجة العلماء بدانٍ بأي شكل من الأشكال، لكن لا حد في الإسلام يتم بالتحريق. هذا أمر معلوم للكل –حتى من حرقوا الطيار. لكن هناك قاعدة إسلامية ثابتة هي المعاملة بالمثل، بدليل قوله تعالى: "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴿125﴾ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ۖ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴿126﴾"
۞سورة: النحل۞.
هذا جزء استطرادي إيضاحي، فلست هنا بصدد مناقشة أمر هذا الطيار. لكن عملية قتله لم تكن فقط بالحرق كما يظن البعض. فقد قاموا بحبسه في قفص حديدي، ثم أشعلوا فيه النار، وقبل أن يموت تماماً قاموا بدفنه تحت الأنقاض.
هذا هو بالضبط ما يحدث لمن تصيبه إحدى هذه القذائف التي يلقي بها هذا الطيار وغيره. فالمنزل يدمر ويحبس من يسكنه فلا يستطيع الفرار، ثم تشتعل فيه النار ويهدم المنزل عليه وهو عاجز عن فعل شيء. فالأمر هنا كان معاملة بالمثل تماماً، وهو أمر من الواضح أنه تمت دراسته بعناية من قبل منفذيه ولم يكن أمراً اعتباطياً يراد به إظهار الوحشية للوحشية. بل كانوا يوصلون رسالة واضحة لمن خلفه: "هذا ما تفعلونه بنا وبأطفالنا ونسائنا، فسنعاقبكم بالمثل". فإن كان يوجد من لم يكن يفهم حتى هذه اللحظة، فقد فهم الآن. وهذا ينفي عن كل طيار عذر الجهالة –إن كان هذا عذر قائم أصلاً.
هذا الطيار، والجيش التابع له وكل الجيوش المتحالفة معهم لا يضربون مناطق عسكرية. بل هم يقصفون المدن ويقضون عليها كاملة بما فيها من شيوخ ونساء وأطفال، للظفر ببعض من يقاتلونهم –وما مدينة عين العرب (كوباني) ببعيد. وهم يعلمون تمام العلم أن ما يسمونه بتنظيم الدولة الإسلامية أو داعش ليست لهم أماكن تجمع، ولا يسيرون في قوافل كبيرة يمكن رصدها واستهدافها. أعرف أنهم يعرفون هذا لأنني أنا عرفته من كلام لواءاتهم على الشاشات. فلو وضعنا جانباً للحظة من هم على الحق ومن على الباطل، يكفي أن أعرف أن هؤلاء الطيارين ومن خلفهم لا يبالون بإبادة الآلاف من "الأبرياء" للقضاء على عشرة من "المسلحين". ومن هنا أفهم أيضاً فرحة الشارع في المدن التي يقصفها هذا التحالف بحرق مثل هذا الطيار وطلب الاستزادة من أمثاله.
صورة لمدينة عين العرب (كوباني) بعد أن "حررها" التحالف العربي-الغربي من داعش!
إذن ما حكم هذا الطيار من المنظور الإسلامي الحقيقي، لا منظور الهوى و"الإسلاميريكي"؟ أهو شهيد حي في جنان الخلد أم هو سفَّاح يستحق الذلة والصغار؟
ما بين الطيار وبين ربه لا يعلمه إلا الله تعالى. وما طلب الإسلام مني أو من غيري التفتيش عن الصدور والنوايا. إنما أمرنا أن نحاسب الناس بأفعالهم، لا نواياهم التي لا يمكننا أن نعلمها يقيناً. ومن هنا يقطع المسلمون رقبة القاتل بغض النظر عن سبب قتله –ما لم يحدده ضابط شرعي من الكتاب والسنّة، كالذائد عن نفسه أو ماله أو عرضه إلخ...
وقد يتوب الله تعالى على القاتل أو لا يتوب. كما قد يتوب على الزاني والسارق وشارب الخمر وغيرهم إن كانوا مسلمين. لكن هذا لا يعني ألا يطبق الملمون الحدود على من انطبقت عليهم، مع العلم التام بأن مصيرهم الأخروي بيد الله وحده.
نفس هذا الكلام ينطبق على هذا الطيار الأردني من وجهة النظر "الوسطية" التي لا إفراط فيها ولا تفريط. فعقوبته في الدنيا حق لمن عاقبوه، وهو حتى القدرة عليه كان مرتداً منتقضاً عن الإسلام –وإن صام وصلى وحج واعتمر وزعم أنه مسلم، كما في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد انطبق عليه ناقضا الإسلام الرابع والثامن بجلاء ووضوح، إن لم يكن العاشر كذلك. هذا لنا في الدنيا. وأما ما بينه وبين ربه في الآخرة، فلا تدخل لنا فيه. فـ"ربما" يكون الرجل قد تاب عما عملته يداه توبة نصوحة قبل موته، و"قد" يكون الله تعالى قد تقبل منه. لكن ليس عليَّ كمسلم أن أتعامل مع "ربما" و "قد". فالحمد لله رب العالمين.
وقد قال عمر رضي الله عنه: "إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه وليس إلينا من سريرته شيء الله يحاسبه في سريرته ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة"
صحيح البخاري.
هذا هو دينكم عباد الله؛ فخذوه كله أو دعوه كله. لا تكونوا والعياذ بالله من الأخسرين أعمالاً، الذين أخبر الله تعالى عنهم بوضوح في القرآن: "قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ﴿103﴾ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴿104﴾ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ﴿105﴾"
۞سورة: الكهف ۞
هذا والله تعالى أعلى وأعلم.
إن أصبت فبتوفيق من الله وفضل وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
الإثنين، التاسع عشر من ربيع الثاني 1436 هـ
الموافق الثامن من فبراير 2015 ش