كان ما حدث في هذا الانقلاب -رغم أنه ما مر عليه إلا ثلاثة أشهر وبضع أيام- تجربة تعليمية علمية تفهيمية رائعة إن أنت جردتها واستطعت الابتعاد عنها عاطفياً وفقط شاهدت وحللت. كان عملية تعليمية لشعب كامل، يأبى كثير منه على ما يبدو إلا الاستمرار في القفز من فوق سور المدرسة ورفض التعلم وإن قُتِل! وقد تعلمت كثيراً كثيراً في هذه الأيام المائة عن شعب مصر وشرطته وجيشه، لا أظن أنني إن ضغطت زر التوقف فسكنت الحياة وبدأت تدوين تجربتي، فإن ما بقي في أيامي يكفي لأنهيه.
لكن كان لافتاً بالنسبة لي الحيرة الشديدة التي تنتاب الناس من -ضمن ما يحيرهم- كيف يمكن أن يكون الجيش المصري بالفعل قد ترك حدود الدولة كلها خاوية على عروشها، ونزل يؤمن الميادين وبالذات ميدان التحرير، وبأي ثمن. لم يصدق أكثر الناس أن يوجه جيش مصر مدافع دباباته وطلقات أسلحته لصدور أطفال مصر وشبابها ونسائها. السؤال السائد حتى الآن بالنسبة للكثيرين "كيف يقتل المصريون المصريين؟"
الحقيقة التي لا ينكرها أي عاقل محلل هي أن هذا الانقلاب كان لعبة ذكية للغاية من أعداء مصر. فبعد نحو 60 سنة -هي عهدالحكم العسكري الحديث- متمثلاً في عبد_الناصر والسادات ومبارك- من إفساد تعليم هذا الشعب في المدارس والجامعات، وإفساد أخلاقه وتكييف عقوله عن طريق إعلام دأبه الكذب والنفاق والانحلال، حرَّك الكيان الصهيوني عميلاً نائماً له -بالدليل القانوني الثابت لا بمجرد الكلام- نجح في الوصول لمركز وزير دفاع مصر وهو عبد الفتاح #السيسي، ليختطف رئيس جمهورية مصر العربية المنتخب الوحيد في تاريخها -مع ما هذا من رسائل ودلالات ليس هذا مجالها- ويضع الشعب المصري في مواجهة مع ... نفسه. في هذا الموضوع ستؤلف المجلدات يوماً ما إن شاء الله أن تستمر الحياة، وقد يكون لي إسهام في هذا الأمر إن قدر الله تعالى ذلك. لكن هذا موضوع آخر...
وبما أنني ما أنا إلا رجل من قومي، فقد تسائلت عن هذا الأمر -كيف يقتل المصريون المصريين- في فترة مبكرة من الثورة. وقد أجبت عن الأمر عبر رسائلي على تويتر والفيس بُك أكثر من مرة. فقد كان السؤال الدائر بين الناس دوماً منذ الانقلاب: "أين شرفاء الشرطة والجيش مما يفعله جيش مصر وشرطتها؟" وقد جاءت إجابتي الصادمة للكثيرين في جملة واحدة: "ليس بين الشرطة والجيش اليوم شرفاء"!
هذه الإجابة صادمة ويرفض أكثرنا تصديقها -رغم إصراري الكامل عليها- لأنه لا يوجد بيت في مصر إلا وبه شخص عسكري أو أكثر من جيش أو شرطة. ولهذا السبب الرئيسي يرفض أكثرنا هذه الإجابة. فالسيد لواء الجيش أبي، والسيد عميد الشرطة عمي، وحضرة نقيب القوات الخاصة أخي. وأنا أرفض أن أبي وعمي وأخي غير شرفاء. هذه المواجهة النفسية التي تضع المصريين أمام الحقيقة المروعة أننا "نحن أنفسنا، لا جيراننا أو أهل منطقتنا" فاسدون حتى النخاع! ولهذا لن تصدق أنت هذا الكلام عندما تقرأه. أنا أقولها لك بصراحة وبكل وقاحة ممكنة: أنت فاسد!
إن فهمت هاتان الكلمتان البسيطتان أكون قد حللت لك أكثر من نصف مشاكلك، ووفرت عليك أعواماً من الزيارات المتكررة للطبيب النفسي. لن أعترض إن قررت إرسال بعض من هذه الآلاف التي كنت ستدفعها للطبيب النفسي لي بالمناسبة! وتكون خطواتك التالية هي تقرير بضع أمور مثل: هل تنوي أن تظل فاسداً أم ستصلح نفسك، وإلى أي مدىً أنت فاسد اليوم وما كم الفساد الذي ترى نفسك فيه بعد 5 سنين و بعد 10 إلخ...!
لكننا نكون ننسب الكثير جداً من البراعة لابن اليهودية #مليكة_تيتاني إن تسائلنا عن الطريقة التي تمكن بها شخص صهيوني واحد هو عبد الفتاح السيسي من جعل الجيش كله ينقلب على بلده ويقتل أبنائه بدلاً من أعدائه. علينا أن نتذكر أن السيسي ما هو إلا إصبع في ذراع الأخطبوط الصهيو-ماسوني. إصبع سيُقطع في النهاية. تذكر أن هذا عمل 60 سنة أو يزيد من إفساد الشعب وإضعاف دينه.
المشكلة الحقيقية في كلاً من الجيش والشرطة -والتي تضمن أن يتمكن شخص واحد ينجح في الوصول إلى منصب وزير الدفاع أو الداخلية من تحريكهما كيف شاء- هي طريقة تكوين جهازي القوات المسلحة والداخلية نفسهما. فإن أنت كنت سيء الحظ بما يكفي لتدخل إحدى الكليات العسكرية أو كلية الشرطة، أو إن قضيت فترة التجنيد الإلزامي، ثم أسعدك الحظ بالخروج منها على خير، فأنت تعرف الطريقة التي يُعد بها ضباط الشرطة والجيش وعساكرهم.
الطريقة ببساطة هي هدم الشخصيات المتعددة التي تصل إلى الكليات -أو مراكز التعبئة- هدماً تاماً، ثم إعادة بنائها كرجال آليون لا يفكرون، بل يتبعون الأوامر بغير لمحة من التردد. عندها يصبح لديك جيش -أو جهاز شرطة- متجانس يمكنه التضحية بأهله وبروحه دون حتى أن ينتبه!
النظرية خلف هذه الطريقة في الإعداد متعددة "المزايا" -بالنسبة للقائد الأعلى للقوات طبعاً، لا بالنسبة لمن تحته. فأولاً، لا يمكن لجندي الجيش -الذي يفترض فيه أن سبب وجوده في الدنيا هو أن يحارب- أن يتردد أثناء الحرب. والتردد في المواقف الصعبة ينتج عن ضعف في الشخصية. فبهدم شخصية الجندي وتحويله لـ"آلة" إن استطعت استخدام هذا اللفظ، تقل احتمالات التردد وإفشال الخطط الحربية بسبب ضعف مؤديها.
"مزية" أخرى في صالح هذه النظرية هي أن القائد الأعلى تكون لديه الصورة الكبرى وحده، بينما الجنود لا يعلمون إلا جزءاً من الصورة حفاظاً على سرية الجيوش وتقليلاً لاحتمالات تسرب المعلومات من الجواسيس إلى الأعداء. وبهذا يكون مهماً أن ينفذ الجندي الأوامر وإن لم يفهم جدواها أو خطورتها.
بالمرور سطحياً على هاتين المزيتين، يتضح لنا السبب الذي من أجله تهدم عقول ضباط وجنود الجيش والشرطة. وسطحياً أيضاً لابد أن نتفق مع أهمية هذه الخطوة التي تبدو حيوية ولا بديل عنها.
أما بتحليل سريع، فهذه الطريقة -التي يمكنك أن تراهن بكل مالك أنها مستوردة من الغرب- طريقة غبية معيوبة ملأى بالعيوب والثغرات، التي لا يتسع مقال لها. لكني مع هذا أريك نقطة أو اثنتين من هذه العيوب.
أولاً، هذه الطريقة مستخدمة اليوم في كل جيوش العالم تقريباً. مما يعني أنها طريقة "تقليدية"، يعرفها ويستخدمها الجميع، وتفشل على الأقل نصف الوقت -بما أن لكل حرب خاسر، فلابد أنها تفشل على الأقل بنسبة 50%.
ثانياً، عندما يتم ترقية هذا الضابط الصغير إلى ضابط أكبر ويُطلب منه وضع الخطط الاستراتيجية والتكتيكية الحربية، كيف يفترض بهذا التحول الفذ أن يحدث في عقل "كُيِّف" على تنفيذ الأوامر بغير تفكير؟
ثالثاً (يبدو أنهما ليستا نقطة أو نقطتين)، ماذا عن الجندي والضابط الذي تنتهي خدمته؟ لقد صار تابعاً موقوف العقل لا يملك إلا اتباع الأوامر، وإن تظاهر بالسلطة والحنكة -بحكم خروجه من مؤسسة يفترض فيها القوة والحزم- ثم يُطلب منه العودة للاندماج في المجتمع. ما هو مصير مثل هذا الشخص؟
بل وأزيدك رابعاً. يعتمد نجاح الجيوش التي تعتمد هذه الطريقة على تدريب الجنود على "كل" المواقف التي يحتمل أن يقفوها لأن قدراتهم الابتكارية تكون -بالتبعية- محدودة للغاية. فماذا يحدث إذا سقط جند جيش في موقف لم يدربهم عليه قادتهم لسبب أو آخر -كوجود جيش "يفكر" مثلاً؟ عندها نسمع الأناشيد العسكرية والقرآن في القنوات الإعلامية المصرية، بينما تذيع علينا سي إن إن والجزيرة أصوات عويل وصريخ جنودنا وهم يذبحون كالنعاج بغير حول ولا قوة.
إذن كيف يمكن تحقيق الهدف -تنفيذ الأوامر بغير تردد وتحقيق السرية- إن لم يقم الجيش والشرطة بهدم شخصية جنودها وإعادة بنائها؟ كنت أود أن أخبرك أن عقلي الفذ تفتق عن هذه الخطة العبقرية التي تحقق هذين الهدفين -والمئات من الأهداف الحسنة الأخرى- وهو الأمر الذي سيرضي غرور نفسي المنفلتة. لكن الحقيقة هي أن هذه الأهداف طالما تحققت على مر التاريخ، ونُقِّحت لأقصى درجة في التاريخ الإسلامي!
والحل بسيط جداً، لدرجة يبدو معها أنه سهل ممتنع. أترك الناس يعودون للدين! لا أقول حفِّزهم أو أجبرهم على هذا، فقط اتركهم وشأنهم بغير تضليل وإفساد ولو لعام واحد. ستجدهم يركضون إلى الدين ركضاً.
لكن ما علاقة الدين بهذين الهدفين العسكريين؟
والإجابة ببساطة: كيف كان الجيش الإسلامي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ بل وكيف كان في عهد خلفائه؟ كان المسلمون سواسية، يحارب أفطنهم في الحرب -خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه وأرضاه- كجندي تحت إمرة من هم أقل منه حنكة وتخطيطاً. ويستنكر الجيش المسلم ما يفعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وبعد المعركة يعودون يشكونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم. لكن لا خالد رفض الحرب ببسالة لأنه أكثر حنكة من أميره، ولا المسلمون ترددوا لحظة في تنفيذ أوامر عمر وهم يرونه متجنياً ولا يوافقون على خططه!
هذان مثالان بسيطان من آلاف الأمثلة التي تظهر بكل جلاء أن الحل الوحيد لإقامة جيش قوي به كل مزايا أقوى جيوش العالم اليوم، دون الحاجة لعتاد جيوش اليوم وعدتها، ودون أي من مساوئها. كما تضمن ألا يفقد الجنود عقولهم أو يصبحوا رجالاً آليين، ولا أن يوجهوا دانات مدافعهم ودباباتهم للمسلمين الذين يدفعون ثمن هذه الأسلحة والذخائر من دمهم ولحمهم بدلاً من الأعداء.
لكن -أعترف- هناك مشاكل عظمى في هذا الحل. فأولاً، هذا يعني أن يعود الناس لدينهم! وثانياً، أن هذا سيمنع فرصة وجود طاغية يحكم المسلمين بجيش منهم. وثالثاً، هذا يعني أنه يمكن للجيوش الإسلامية أن تصبح أقوى من كل جيوش الأرض!
وهذه كما نعلم جميعاً أشياء لا يمكن أن نتركها تحصل...