منذ العقد الأخير من القرن العشرين ظهرت في العالم كلِّه حملة شعواء جديدة تُنَدِّد بالمسلمين و تصِفُهم بمصطلح كان جديداً وقتها، ألا و هو الإرهاب. و صُوِّر الإرهاب على أنَّه شئٌ نَكِر. فهو ترويع للآمِنين و قتل للعزل و الأبرياء من النَّاس. و صَوَّر أعداء الله المسلمين على أنَّهم هم وراء كل بلاء و إرهاب من هذا النَّوع في مشارق الأرض و مغاربها. و دَعَوا إلى التَّعاضُد ضد الإرهاب و الإرهابيِّين الَّذين هم - طبعاً - المسلمين.
و حيث أن حلف الشَّيطان اليوم صار على قلب رجل واحد فيما يختص بالقضاء على الإسلام و المسلمين، و بما أن المسلمون صاروا اليوم مُمَزَّقي الشَّمل مُهَلْهَلي الجَّمع - و لا حول و لا قوَّة إلا بالله - فقد خاف المسلمون على مُلكهم و ممتلكاتهم، فصار همُّهم الأوحد هو أن يثبتوا للعالم كلِّه أنَّهم بُرءاء من الإرهاب و الإرهابيِّين، و لو كان ذلك بتسليم أقرب أقربيهم لأعدائهم للنجاة من تلك التُّهمة الشَّنعاء الَّتي تُجَيَّش لها الجيوش و تنقلب لها الدُّنيا رأساً على عَقِب.
ثُم و جد هؤلاء أنَّه وَتَر مؤثِّر فعَّال في جعل العرب و المسلمون يرضخون لكلِّ ما يُطلَب منهم. فزادوا في الأمر وفق إشتهائهم. فصار كل من يقول كلمة الحق إرهابيَّاً. فوجب تسليمه إلى هؤلاء الطُّغاة و إلَّا... و استُخدم شعار "مكافحة الإرهاب" لتجور دولة ظالمة كأمِريكا مثلاً على بلد مسلم كالعراق و تستولي على كلِّ موارد رزقه، و تسبي نساءه، و تقتل شيوخه و صبيانه، ثم تقوم بمذابح جماعيَّة و إغتصاب جماعيٍّ للرجال و النِّساء على حدٍ سواء، و يتجرَّأون على وصف المقاومة العِراقيَّة بالإرهاب. وحينما وجدوا أن مبرِّرات إغتصاب الحق قد نفذت منهم، إكتشفوا ألَّا داعي أصلاً لإختلاق المُبرِّرات. فالشعوب الإسلاميَّة أهون شأناً بكثير من أن يرهقوا أنفسهم بالبحث عن مُبَرِّرات لها. و هذا موقف واحد. ناهيك عمَّا يحدث في فلسطين و الشِّيشان و السُّودان إلى آ خر القائمة الإسلاميَّة الطَّويلة التي لابد من القضاء عليها.
و خرج على النَّاس مُدَّعٍ غربيٍّ يقول: "الآن و بسقوط الشُّيوعيَّة لا يبقى خطر عَلَى العالم مُواجهته إلا الإسلام." ثم يخرج حقيرٌ آخر قائلاً - و الحديث عن العدوان الأمريكيُّ على العراق: "أنّه لابد من تطهير الشرق الأوسط ممَّا فيه من فساد عن طريق هذه الحملة الصَّليبيَّة الجديدة." لقد ربطوا بكل وقاحة و صراحة بين الإسلام و الفساد، و بين التطهير و الصَّليب. هذا ما آل إليه حالنا اليوم. فماذا فعلنا؟ ليس أكثر من تسليم المزيد من أراضينا و أعراض نسائنا و أرواح أطفالنا و آباءنا، لا لِشئ إلا لنبقى على كراسي حكمنا و تقبع في منازلنا ما دام هذا يجري في دولة مجاورة و إن كانت إسلاميَّة. و نسينا القصَّة العربيَّة القديمة الَّتي كأنَّما لم يخلقها خيال مؤلِّفها إلَّا لنا، و الَّتي تنتهي بندم الثَّور الأخير و رأسه في فم الذئب و هو يقول: "أُكِلْتُ يوم أُكِلَ الثَّور الأبيض."
و ما كلّ ذلك إلا مقدِّمة لما سيحدث. و هو ليس إلا تبعاً لما قدَّمنا لأنفسنا. فما الله بظلَّام للعبيد. لقد خذلْنا الله في ديننا و أداء واجباتنا نحوه و نحو عباده، فخَذَلَنا الله. فالآية الكريمة: "إِنْ تَنْصُرُوا الله يَنْصُرْكُم وَ يُثَبِّت أَقْدَامَكُم" توضِّح بالتبعيَّة أننا إن نخذل الله يخذلنا و يشتِّت شملنا. و قد فعلنا فاستحققنا عن عدل كامل غضب الله علينا و خذلانه لنا. و حيث "إِنَّ الله لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم"، فإن كان بنا أدنى قدر من عقل لبدأنا بتغيير أنفسنا الآن قبل أن نُدْفَع لذلك دفعاً حين يأتينا الطَّواغيت إلى أعتاب منازلنا، وما هذا منا اليوم ببعيد. لقد ثبت لجبننا أبشع النتائج. و ها هم المسلمون يتساقطون من حولنا المئات تلو المئات. و هم آتون لا محالة إلى دارك و داري، أينما كان معاشنا. فالمسلمون في أمِريكا و أوروبا الآن مضطهدين أيُّما إضطهاد و هم يحيون في هذه البلاد التي تتشدَّق بالحريَّة و تزعم أنَّها ما دخلت البلاد الإسلاميَّة إلَّا لنشر حريَّة العبادة و الفكر. فهم قادمون قادمون و لم يعد بيدنا ما نفعله إلَّا أن نفيق طوعاً بدلاً من كرهاً.
لم يعد هناك مجال للحلول السِّلميَّة و الوسطيَّة إلى آخر تلك المسمَّيات الزَّائفة الَّتي لا تعني إلَّا أن يسلِّم المسلمون كل عزيز و غالٍ حتى يرضى السَّادة عنهم. فلا وجود لسلام لا تحميه قوَّة. و انظر إلى السَّلام الَّذي ساد أرجاء الغرب إبَّان الفتوحات الإسلاميَّة، و كيف انتشرت حقَّاً حُرِّيَّة العقيدة و الفكر لكل إنسان، مسلم كان أم لم يكن. و انظر كيف كان للإسلام قوَّة قاهرة تحميه، لم تنبع من أعداد هائلة للجند أو تقنِّيات حديثة في صناعة الأسلحة. بل كانت نابعة من تأييد من الله لفِئات قليلة من المؤمنين الأحِقَّاء الَّذين ضحُّوا بكل عزيز و غالٍ طوعاً و لكن في سبيل الله، فحفظ الله لهم أعراضهم و أموالهم و أنفسهم، و أغناهم من فضله ما لم يكونوا يجسرون على الحلم به حتَّى. لقد فهم هؤلاء لُبَّ الأمر. فهموا معنى قوله تعالى: "وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ و رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَ عَدُوَّكُم".
الآية صريحة وضحة. لابد لنا من الإعداد ما استطعنا. القوَّة هي قوَّة إيمانيَّة أوَّلاً ثم قوَّة جسمانية وعدديَّة. و رباط الخيل هو التسليح. و هذه تأتي لاحقاً و ليس أوَّلاً كما يظُنُّ البعض. و لقد حاول بعض الناس تفسير الآية وفق فهم خاطئ بأنَّه لابُد لنا من الحرب الآن و أن القوَّة العدديَّة تكفي. و لم يفهم أن إعداد القوة لابد أن يبدأ بإعداد النفس. فكيف نجاهد الآخر و نحن لا نستطيع أن نجاهد أنفسنا و ننتصر عليها أوَّلاً؟ إذن ليس المطلوب الآن حرْباً هوجاء غير مدروسة على أعداء غاشمين. بل المطلوب خطوات عمليَّة لإستجلاب النَّصر لهذه الأمَّة على نفسها أوَّلاً لتنتصر على أعدائها كمرحلة تالية.
المطلوب أوَّلاً وقفة مع هذه الآية الكريمة الَّتي جمعت فأوعت. فنحن لسنا إرهابيِّين في هذه المرحلة من الزَّمن. و إن كنَّا نريد أن نصبح إرهابيِّين لعدو الله كما أمرنا ربُّ العالمين عزَّ و جلَّ. و من قال لا أريد أن أكون إرهابيَّاً بهذا المعنى، فقد خالف أمراً صريحاً لله تبارك و تعالى كما في الآية. إذن فقد فرقنا بين من يرهب الأبرياء الآمنين من النَّاس - و هو الإثم الكبير - و بين من يرهب عدو الله و يعلى كلمته سبحانه و تعالى في الأرض - و هو غاية منى كلِّ مؤمن بالله.
الجزء الأول من الآية الكريمة يأمر المسلمين بإعداد القوة. والقوَّة الَّتي نزلت الآية تخاطب فيها مُسلمي زمن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وصحابته الكِرام كان المقصود بها قوَّة التسليح والعدد. فقد كانت القوَّة الإيمانيَّة والنَّفسِيَّة في أوْجها وليست بحاجة لإعداد. أمَّا في حال مُسْلِمي اليوم - والله أعلم بحالِهِم - تكون القوَّة المقصودة أوَّلاً هي قوَّة العقيدة والإيمان، والأخذ بالأسباب الدُّنيويَّة للنجاح والنَّصر. فإن قال قائل اليوم بأن على المسلمين حمل السِّلاح والإتِّجاه لغزو أمِريكا أو إنجلترا، كان واهِماً. ليس لأن أمِريكا وأوروبا أقوى منا تسليحاً أو أكثر منَّا عدداً، بل لأن المسلمون تنقصهم كل عوامل النَّجاح والنَّصر. فلا نحن مؤمِنين نؤدِّي حقوق الله وواجباتنا نحوه على النَّحو الَّذي يُرضيه، فنتوَّقَّع أن يتدخَّل لنصرتنا كما حدث ببدر والفنوحات الإسلامِيَّة، ولا نحن حتى نملك الإستعداد الدُّنْيَوِي من عُدَّة وعتاد فنهزم أعداءنا من منطلق النَّصر للأقوى.
إذن، لنا أن نختار بين الطَّريقين. فإمَّا أن نختار الدُّنيا، فيؤتينا الله شيء منها وما لنا في الآخرة من خلاق، وهو طريق الشَّيطان وكل خاسر، وإمَّا أن نختار طريق النَّجاح، وهو طريق الله سبحانه. وعلى مدار التَّاريخ أثبت الله أن طريقه هو الطَّريق الوحيد النَّاجِح والغالِب في النِّهاية. فموقف تركيا مثلاً الآن هو أوضح الأمثلة على وضع الأُمَّة المسلمة عند تنازلها عن دينها ومبادئها وقيمها وكل عزيز لديها لمجرد الإعتقاد أن إرضاء السَّادة من الأوروبيين والأمريكان، وكأن خلاص الأمَّة يعتمد على انضمامها لأوروبا. وقد صدق الخليفة الراشد عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه يوم فتح بيت المقدس، حين قال له من حوله أن هذا يوم عزَّة وفخر للمسلمين، وطلبوا منه إرضاء النَّاس بتحسين مظهره وملبسه، فقال رضي الله عنه: "وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ و رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَ عَدُوَّكُم." قال هذا خليفة أكبر أُمَّة على مدار التَّاريخ، والَّذي فتح الله على يديه الأرض من أقاصيها إلى أقاصيها، ثم ها هو يذهب لتلقِّي مفاتح القُدْس الشَّريف بأسمل مُهترِئة، وقدماه ملوَّثتان بالأوحال من السَّفر، وهو يجر حماره الَّذي يركب عليه خادمه خلفه. فانظر كيف كان رأي النَّاس فيه. لقد خرَّ اليهود الَّذين جاؤا لتسليمه مفاتح المدينه سجوداً لله وقالوا: "هذا والله الَّذي نجد وصفه في توراتنا، يفتح الله على يده القدس. ذا جبين عالٍ ويرتدي الأسمال البالية." لقد وعَى خليفة المسلمين الدَّرس جيِّداً. فالعزة لله جميعاً. فكان حقاً أعز من مشى على ظهر الأرض في وقته. لا بالجاه والملبس، بل بالله وبالله وحده. فتصوَّر إن دخل المسجد الأقصى بثياب مترفة وموكب عظيم، عندها لشكَّك اليهود فيه، ولقامت اضطرابات في هذه البلدة لم تهدأ لأن وصفه خالف وصف من وُجِد عندهم في التَّوراة. فهل لتركيا ومثيلاتها أن تتَّعِظ من التَّاريخ؟ ما الَّذي وصلت إليه تركيا الآن؟ ذل وهوان ما بعدهما ولا قبلهما. وإلحاد عام وتفكُّك تام في سائر الدولة التي كانت لقرون عاصمة الخلافة الإسلاميَّة وتملك نواصي تلك الدُّوَل الَّتي تذل لإرضائها الآن. ثم ماذا كان رد تلك الدُّوَل؟ قالوا - بعد أن نفذت تركيا كل ما طلبوا وبذلت كل نفيس وغالٍ لإرضائهم - لا ندري إن كان قبول تركيا كجزء من أوروبا ممكناً أم لا. فتاريخها - الإسلامي طبعاً - لا يؤهلها لدخول هذا المجتمع. أي ذُلٍّ وهوان؟ وكيف رضوا لأنفسهم مثل ذلك؟
أمَّا النِّصف الثَّني من الآية فيأمر بإعداد رباط الخيل، وهو التَّسلُّح. وتسلُّح المسلمين المادي على مدار التَّاريخ كان أقل من عدوهم دائماً، فقد كان سلاحهم الأوحد هو الإيمان بالله والثِّقة فيه وفي نصره لهم. لكن ليس معنى هذا أن ندخل المعارك بصدورنا في مواجهة أعداء يحملون الصواريخ النَّوويَّة. بل لابد لنا من إعداد ما استطعنا من تجهيزات عسكريَّة حديثة قدر المستطاع. كما أنَّه لابد لنا من الثِّقة بأن السِّلاح والعدد لن يكونا أبداً من ينصرنا. لكنهم مجرد سبب دنيوي نأخذ به لنكون من المطيعين لله في الأخذ بالأسباب، فيكرمنا بالنصر من عنده. على أنفسنا أوَّلاً، وهو ما أسماه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالجهاد الأكبر، ثم على أعدائنا، وقد أسماه بالجهاد الأصغر. والدَّرس هنا أن انتصارنا على أنفسنا الأمَّارة بالسُّؤ لأعظم وأكبر شأناً بكثير من إنتصارنا على أعدائنا.
والجزء الأخير من الآية يخبرنا أننا إن إنتصرنا على أنفسنا، واستعنَّا بالله تعالى وحده وأعددنا ما استطعنا من التَّسليح والعتاد لمواجهة أعدائنا، فإننا بذلك نرهب عدوّ الله وعدوّنا. ومعنى هذا بالنسبة لنا هو إيقاف نزيف الدَّم المسلم الَّذي أغرق الثرى في أنحاء الأرض. ومعنى هذا تحصين أعراض النساء والأطفال المسلمين في كل مكان. بل ومعنى هذا عودة العزَّة والمجد للإسلام والمسلمين، ونيل رضى الله سبحانه عنا، وهو أغلى وأسمى هدف.
اللهم اجعلنا ممن رضيت عنهم وكانوا ممن يرهبون عدو الله وعدوَّهم.
إن أصبت فبتوفيق من الله و فضل. و إن أخطأت فمن نفسي و من الشّيطان. سبحان الله و تعالى عمّا يشركون. و سلامٌ على المُرسلين. و الحمد لله رب العالمين.